التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"أوراق" عن أزواد/ السادسة/ سنوات التيه



"أوراق" عن أزواد/ السادسة/ سنوات التيه


لم ينته عهد موديبو كيتا في نونبر سنة 1968 إلا بعد أن دمر أزواد اقتصاديا واجتماعيا وسلبه أغلى ما يملكه أهله: العزة والكرامة، فأذلّ كبراءه واستباح حرماته، ليحل الغضب محل الكبرياء الذي عرف به الأزوادي بين جيرانه، وساد اليأس ربوع أرض موسى آگ أمستن وفيرهُن والميون بن حمادي، ومحمد بن رحال
وكادت الحِلَلُ العامرة بمخيماتها الكثيفة المتراصة تختفي، ومعها قطعان الإبل البيضاء والشقراء البديعة، والأغنام الوافرة، كما اختفت سباقات الهُجن الذلولة التي لا تحتاج سوى تحريك الخطام، دون عصى أو نسعة، المزينة بالرواحل ذات القرابيس العالية، المبطنة بالأحزمة الجلدية والشعرية المتدلية، بألوانها المزركشة الأصيلة، تحت رجال أشداء ذوي قامات فارعة، بدراريعهم السوداء والبيضاء، وعمائمهم الطويلة، الممتشقين بعزة وكبرياء سيوفا قهرت الطامعين على مدى التاريخ، وضاعت مكتبات عريقة غنية بنفائس الكتب، في خضم هذا التشتت غير المسبوق.

وأصبح مصير الإقليم بيد الضباط والجنود الذين كانوا يد الناظم البائد الباطشة، بعد أن استولوا على السلطة، التي لم تغير في شيء، اللهم تفكك النظام الاشتراكي الذي ظل يحسب على الناس أنفاسهم ويقيد تصرفهم بأموالهم

وسار الجديد على خطى القديم باعتبار أزواد منطقة أمنية، أهلها محل اتهام دائم بالإرهاب والتمرد

وصادفت هذه الفترة موجة الجفاف الماحق التي ضربت منطقة الساحل والصحراء سنوات متتالية، في سابقة لم يعرفها السكان المعتادون على دورة القحط لا تدوم إلا سنة أو سنتين، يتبعه الغيث والخصب، كما تبينه  حوليات المراكز الحضرية. فلم يكن السكان إذن مؤهلين لمواجهة الكارثة، وتصرفوا كما كانوا يفعلون، ينتقلون بمواشيهم إلى المناطق الرطبة وضفاف الأنهر، ليقايضوا منتجاتهم بالمواد الغذائية، لكنهم وجودوها منكوبة، إذ لم يكن أحد يدرك أبعاد الظاهرة ولا مداها.

ومن هنا كان على الحكومة المالية أن تتصرف بسرعة وفعالية كما في الدول المجاورة: موريتانيا وبوركينا فاصو وبنسبة أقل النيجر.

ففي موريتانيا مثلا أُعلن النفير العام وسخرت الحكومة ما لديها من إمكانيات لمواجهة الجفاف، فنشطت الإدارة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام لمؤازرة السكان وتنويرهم بأبعاد ما حل بهم، وطلبت العون الخارجي، ثم اتخذت على الفور إجراءات عملية، تمثلت في إلغاء العشر نهائيا عن الماشية، ووضع برنامجي عرف بخطة التدخل السريع، اضطلع بتوزيع المواد الغذائية والدوائية وحفر الآبار، تحت إشراف وزير الصحة والشؤون الاجتماعية د. عبد الله بن ابّاه، الذي وضعت تحت تصرفه تجهيزات القوات المسلحة والحرس ورجالهما، فأضافوا الفعالية على هذا الجهد الوطني، خاصة بإشرافهم على أسطول السيارات الذي جاب المناطق المتأثرة، المنتشرة في غالبية أرض الجمهورية، حيث تحقق المطلوب في الوقت المناسب، رغم انعدام الطرق المعبدة في تلك الحقبة. وكانت تلك بدايات إقامة مفوضية الأمن الغذائي، التي اعتبرت تجربة رائدة استنسختها عدة دول.
    
أما في أزواد فكانت وطأة الجفاف أشد لأن الحكومة لم تكن مبالية به، فتركت السكان يواجهون مصيرهم وحدهم، لا مرشد ولا معين، واستمرت في جباية الضرائب على الماشية، ومتابعة الرقابة على تنقل السكان بحيث لا يحق لهم الاقتراب من ضفاف النهر إلا بمسافات معينة؛ ولم تصل سنة 1973 حتى نفق جل الثروة الحيوانية، وانتشرت المجاعة في أصقاع الإقليم، وأصبح الناس عاجزين عن توفير ضرورات الحياة الأساسية من مأكل وشرب وملبس وسكن، فتشتت الرجال لا يلوون على شيء في الاتجاهات كافة بحثا عن وسيلة لإنقاذ من تركوا خلفهم من نساء وصبوة وعجائز في مخيمات قرب الآبار، والتي أصبح جلب مائها غاية في الصعوبة بعد نفوق الماشية؛ وكان الرجل يصحب معه في رحلة الميرة تلك كل ما بقي له من دواب صالحة للبيع، وبقايا الأثاث: من زرابي وطنافس ومصنوعات جلدية وخشبية، كما جلبوا معهم كتبا مخطوطة نفيسة وحلي النساء ومقتنياتهن،  بل إن البعض اضطر أن يترك عياله في العراء ويأخذ الفروة ليقايضها بمواد غذائية.
ومع طول الوقت أصبحت أكثرية الأسر معدمة، لا تملك ما تقايض به الطعام،  فمات الآلاف من الناس جراء الجوع وتبعاته، غالبيتهم في مخيمات، ذكر شهود عيان أنها كانت مسكونة بأناس شديدي الهزال، لا يقدرون على الخروج إلى الزائر، خوفا من الظهور في أوضاع غير لائقة، منها العري، مما يذكّر بما مرت به العديد من المناطق الموريتانية إبان الحرب العالمية الثانية، تحت الاحتلال، حيث لبس الناس الجلود وقطع الوبر المحاكة للخيام، حتى أن بعض الأحياء البدوية كانت لا تملك إلا دراعة واحدة يتعاقب عليها رجاله، عندما يتعين على أحدهم الخروج للقاء زائر؛ وقد قيل في السبعينات إنه لو لم تكن لموريتانيا حكومة مركزية لمات جل سكانها الذين كانت نسبة البدو منهمحينها - تزيد على 70% .
  وكنا في منكبنا البرزخي نسمع بعض الأخبار عن مأساة أهل أزواد التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام الغربية المكتوبة، من بينها صحيفة "لموند" الباريسية التي نشرت سلسلة مقالات للكاتب الصحفي الشهير "فيليب دَكْرينْ" عن الجفاف في مالي،  نقل فيها صورا مخيفة عن حالة السكان في أزواد، متهما الحكومة المالية باستخدام الجفاف لتصفية حساباتها السياسية والأمنية مع السكان، وانتقد سكوت العالم عن هذا الوضع البشع
 وقد قامت مجموعة من الشباب في نواكشوط بتكثير هذه المقالات وتوزيعها على الرئاسة والوزارات، مطالبين بوقفة تضامن مع الأشقاء الأزواديين، ومستنكرين الصمت على أفعال باماكو. لكن  أحدا لم يتحرك، لإنقاذ هذا الشعب أو التخفيف من محنته، لا في الدول الغربية ولا الأمم المتحدة أو التجمعات الإقليمية،  حيث لم تكن الصحوة العالمية لمؤازرة حقوق الإنسان وحماية الأقليات التي شاهدناها مع بداية انهيار الكتلة الشيوعية قد ولدت بعد؛ وذلك رغم وجود حركة تكاد تكون كونية يقودها اليسار، تدافع عن حركات التحرير في إفريقيا وفلسطين وفيتنام.
  والّفتة الوحيدة للدول الغربية ومنظماتها الإنسانية، كشركات الصليب الأحمر، كانت إرسال بعض المواد الغذائية والأدوية إلى حكومة باماكو، دون مراقبة على تصريفها، فاستحوذ عليها الضباط القابعون في السلطة، واستمرت المعاناة وتشعبت، ولم يلتفت أحد إلى أن جوهر المشكلة السياسي،  حيث تصر حكومة على ممارسة التمييز على جزء من شعبها، والتخلي عن مسؤوليتها اتجاهه، مما يتنافى وواجباتها الدستورية وما يفرضه القانون الدولي والشرائع السماوية وتقاليد التعايش والمساكنة.

بداية التشرد


   اكتملت هجرة سكان البادية إلى المدن والمراكز القريبة من مصادر المياه، وانتشرت الفروات وأقفاص الحشائش، على أطرافها، بينما أصر قسم منهم على البقاء في الأرض التي ألفوها، حيث بقيت على الألسن مآثر بعض رجالهم من تجار ووجهاء وزعماء قبائل بذلوا أموالهم وجاههم لمد يد العون لهم حتى تحسنت الظروف مع الثمانينات، ومن هؤلاء السلطان بادي بن حمادي
 ولم تحرك السلطات الرسمية الحضرية ساكنا لتخفيف وطأة المجاعة على الواصلين الجدد، فآثر عدد من أرباب الأسر مواصلة الرحلة إلى الجنوب داخل مالي وإلى الدول المجاورة لها في الجنوب، وهكذا ظهرت في شوارع لاگوص وكوتونو ولومى وأكرا وأبدجان مشاهد غير مألوفة، وهي تسول صبية غرباء، بنين وبنات، بزي غير مألوف وبشرة بيضاء ينتشرون على قارعة الطريق، وعند إشارات المرور، لإعالة ذويهم الذين اختاروا أشجار الشوارع مأوى لهم
واتجهت أعداد من سكان المناطق الوسطى والشمالية مثل أُولمدَنْ والهگار وإفوقاس وكل السوق إلى مدن الجزائر الجنوبية كتمنغاست، وعشائر الاتحادية الكنتية إلى آدرار، حيث يرتبط هؤلاء وأولئك مع سكان الجنوب بوشائج القربى، فاستقبلتهم السلطات الجزائرية برحابة صدر، وآوتهم ووزعت عليهم بطاقة التموين التي انتشرت بين الأزواديين إلى عهد قريب، إضافة إلى ذلك لقي هؤلاء الترحاب من أبناء عمومتهم الجزائريين، فشكلوا جسرا للتواصل، وانتعشت التجارة وتبادل المنافع مع الإقليم وبدأ الاطمئنان يعود إليه بعد أن أصبحت أجزاء منه في حكم التابع للجزائر، التي ظلت على مدى سنوات لاعبا لا غنى عنه بالنسبة للمناطق المتاخمة لجنوبها، ونجحت في إقامة علاقات متميزة مع أولائك الجيران، رغم تربص الدوائر الغربية وإعلامها للصيد في المياه العكرة بين دول شمال إفريقيا وجنوبها. يتواصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شعر : يُحاصر بيتَ جاري قاتِلان

يُحاصر بيتَ جاري قاتِلان * فقل لي كيف أشعر بالأمان ؟ و أسمع صبية يبكون خوفا * فما معنى التسمُّر في مكاني ؟ أسيرُ تلطُّفاً و أقولُ همسًا * و كنتُ أخ الجميع إذا دعاني   فما للناس تُسْلِمُني و تنأى * عرفتُكَ بالتقلُّب يا زماني ! ورثتُ حداء قافلةٍ ولكن * أرى الصحراء تخسف بالأغاني سأدخل في سراديب التمنِّي * وأخرج مُشهِرا سيفَ البيانِ لهذا النجم قصتُه دليلاً * فمنْ يا نجمُ ضيَّعَ عنفواني ؟ و كنتَ معي نطارد كلَّ غازٍ * و كنتَ مع الحجيج بتلمسانِ سميرَكَ كنتُ في أزَوادَ تبكي * رحاب البيتِ و الركن اليماني وفدتُ أميرُ أهلي يا صديقي * فكنتَ لدى التخاطب ترجماني   أحبٌّهمُ و كنتُ لهمْ حبيباً * فباعدَناَ الغريبُ على التدانِي و خط بكفِّه الحمراء خطًّا * كذاكَ يكونُ في زمن الهَوانِ قَبِلْنا ما تجيء به الليالي * أليس البينُ ساقيةَ الحنانِ   يعذِّبُنا ب تمبكتو هيامٌ * و تبكينَا فنفهمُ ما تُعاني أحقًّا يا جميلةُ أنَّ

من يوقف حمام الدم الأزودي ! - عبد العزيز الطارقي

من يوقف حمام الدم السائل ؟  يظل الـدم الازوادي الرخيص ينزف رغم إدعاء مالي دخولها للمفاوضات وإنهاء العنف والانتهاكات ! لكن مانراه في الآونة الاخيرة وفي الأيام القليلة الماضية ماهو إلا زيادة في عدد القتلى الازوادين والاعتقال المتعسف والهجوم على القرى والخيم في البوادي و الصحاري وكل هذه التجاوزات والانتهاكات يرتكبها جيش مالي الذي أعاد للأزواديين ذاكرة التسعينات علما انه انتهج نفس نهج التسعينات فالاماكن التى يتعسكر فيها جيوش حركة تحرير أزواد لا يقصدها جيش مالي ، ولا تتواجد إلا حيث المناطق التى أخلتها الجماعات الجهادية مع بداية التدخل الفرنسي . صورة من جرائم جيش مالي ورمي جثث الأزواديين بعد تصفيتهم في أحد الآبار وأمام نظر فرنسا التي تدخلت بجحة حماية حقوق الانسان وفي ظل تكتم منها على هذه التجاوزات يمارس جيش مالي ومليشيات أنواع الانتقام والتطهير العرقي الممنهج والذي يستهدف في غالبه ذوي البشره البيضاء من الأزواديين خاصة الطوارق . علما أن جل من طالهم ذلك هم من المدنين الذين لا يحملون أي سلاح .. والمثير للجدل والمستغرب أن جيش مالي في الآونة الاخير كشر عن أنيابه و

أزواد .. من قضية عادلة إلى حركات سياسية !

اليوم 1 نوفمبر يوافق الذكرى السنوية الثالثة لإعلان تأسيس الحركة الوطنية الأزوادية بعد سنواتٍ من غياب الحركات الأزوادية المطالبة بإستقلال أزواد  وكانت لهذه النشأة الجديدة دور كبير في إيقاظ الشعب الأزوادي وتجديد روح المطالب لهذه الدلالة الرمزية من تأثير معنوي .. ونحن إذ نوافق هذا اليوم وننظر إلى الحال الذي آلت إليه أزواد ، وما يحاك ضد شعبه المستضعف  فنجد اليوم أزواد في وضع لا يحسد عليه ، صراع المصالح الدولية ، وتنافس إقليمي ، وغياب قرار محلي .. ما أسميه فوضوية الأمم المتصارعة  فبدءا بالقرار الداخلي .. الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تجمدت "نعد بتفصيل لتفسير هذا الجمود " عند اتفاق بوركينافاسو وهاهي تمني النفس و تنتظر المفاوضات مع باماكو كما يعدها الوسطاء الغربيون الذي لا تبدو جدية لهم في هذه الوعود ، وفي المقابل أسماء قبلية تتسابق وتهافت إلى المناصب باسم باماكو ... لتضيع عدالة القضية بين المفاوضات والسمسرة .. وها هو الشعب الأزوادي في الملاجئ او المحاصر في الداخل أو المغترب يئن من هذا الحال المتعاهد عليه في الثورات السابقة ويبدو أن الحال لم يتغير ، والغباء السياسي هو المسيطر على